سمير الحجار
العودة إلى ساموس ١/٣-السفينة

بعد إتمامي عامي الخامس في العاصمة الألمانية، لاحظت أنني دائماً أجد نفسي أستمع لقصة قدوم أبناء جاليتي السورية إلى أوروبا أو أخبرهم قصتي، فرحلة البلم أو القارب المطاطي، أصبحت أكثر الأحاديث المشتركة بين السوريين هنا و في كل مرة أقابل سوري جديد أستمع لقصة أسوء و أكثر خطراً، ولكننا جميعنا نعلم ما معنى أن تكون وحيداً في عرض البحر و نكن حقداً للمهربين حتى من كان (ابن حلال) منهم.
في عام ٢٠١٥ تركت دمشق برفقة صديقي نافع و كانت أوروبا وجهتنا، و في تركيا تعرفنا على كل من فراس و أحمد و جلسنا بجانب بعض في البلم الذي لحسن الحظ رسا على أحد الجزر اليونانية، ساموس (Σάμος ) موطن عالم الرياضيات و الفلسفة فيثاغورس الذي كان يرتدي الملابس البيضاء، يتأمل في أوقات محددة، و يمتنع عن أكل الفول و اللحوم.
جمعتنا-فراس، نافع، أحمد، و أنا-صداقة مميزة مع مرور الأيام في برلين، و في أحد ليالي الربيع قررنا بشكل عفوي في أحد مقاهي برلين التي يسمح فيها التدخين، أن نعود في إجازتنا الصيفية إلى ساموس الجزيرة التي قدمت لنا فرصة ثانية في الحياة، فحجزنا تذاكر الطيران إلى أثينا و استأجرنا شقة في الجزيرة، كما أشترينا تذاكر "السفينة" هذه المرة التي ستأخذنا من أثينا إلى ساموس و ستسغرق ١٠ساعات! الرقم المفضل لفيثاغورس فهو يعبر عن الكمال، فيكون في المحصلة ١٦ ساعة من السفر للوصل إلى الماضي الذي كان حاضراً مشوش و مُحمل بالأسئلة، و لما لا؟
—السفينة (أثينا إلى ساموس):
إن البحار الصعبة تصنع الرجال، إنها المغامرة و إلتقاء السماء مع البحر و الخضوع لهما بسلام.
بعد هبوط رحلتنا في أثينا التي تشبه دمشق كثيراً، توجهنا نحو المرفأ في منتصف الليل، فدخلنا السفينة و صعدنا إلى القمة لنرى اليابسة بينما نترك المرفأ و نلوح للغرباء و ثم تحول التلويح بسرعة غريبة إلى التلويح بالإصبع (النصاني) من طرف الغرباء و لكن لا بأس إنه روح الدعابة الإغريقي و قابلناه بالمثل.
السفينة ضخمة و فيها بار كلاسيكي بالإضافة لعدد من المطاعم و سينما و مقاعد كثيرة قد مُلئت جميعها، فإنقسمنا و حاولنا البحث عن مقاعد لننام بعد ساعات السفر الطويلة، فبِدتُ أدور في طوابق السفينة الثلاث فأجد نافع نائم على البار، ثم أجد فراس نائم في المطعم و أجد أحمد نائم مع مجموعة من الغجر، و في جولتي الثانية أجد فراس نائم على البار و نافع في المطعم و أحمد وحيداً من دون الغجر، فرغم "إمتلاء المقاعد إلا أنها غير مريحة" و في هذا معنى فلسفي لا أفهم و بجميع الأحوال الله يقدم لنا الكثير من الأيام إلا أن تلك التي نقضيها في البِحار لا تُحسب.

لم أجد مقعداً، فخرجت إلى قمة السفينة لأُدخن و استمع لموسيقى يونانية تصويرية لفيلم من السبعينات "سيربيكو" لآل باتشينو الذي شاهدته في السينما ضمن فعالية تحتفل بأفلام نيويورك في القرن الماضي، و ألف الموسيقى ميكيس ثيودوراكيس اليوناني الذي يعتبر بمثابة زياد الرحباني في اليونان، و في الخارج قد سد الليل و ظلامه كل زوايا البحر و السماء التي زُينت بنجوم تحترق بصمت و تذكرت الأسطورة اليوناني التي تقول:"منذ عصور سحيقة وُجِد أول كائن خاؤس الذي أنجب بطريقة لا يستطيع أن يتخيلها البشر نوكوس—الليل الحالك— و أريبوس—الظلام الدامس.
و كان هذا كل ما إستطعت أن أراه، ولكنني شعرت بالوحدة الجميلة التي نحتاجها، بالطمائنينة و القبول المطلق لواقع الحياة الذي يتحدث عنه البوذيون فلو إنتهيت الآن لم أكن لأبالي، و فقدت الحياة معناها لثواني، ثم عاد لأتذكر أهلي و أصدقاء و كل من أحببت، لأدرك أن الحياة بكل بساطة هي الناس و حبهم، الذين يترقون أبواب ذاكرتنا حتى في حضور نوكوس و أريبوس، و تقول الأسطورة زواجهم خلف مخلوق لطيف بجناحين لونهما لون الذهب الخالص، و لم يكن ذلك المخلوق سِوا إيروس، إله الحب و هكذا وجد الليل و النهار، الجمال و النظام، و هكذا يكون الحب وراء كل وجود.
إنتهت السيجارة و زاد دوار البحر فعدت إلى داخل السفينة، إلى صالة السينما حيث كان يعرض فيلم يوناني يشبه بإنتاجه المسلسلات اللبنانية وجدت مقعداً و حاولت فهم القصة، ثم نمت ملئ العينين.
في صباح اليوم التالي أيقظني نافع يحمل القهوة بينما يلين علي رأس حاج، "قوم وصلنا" هو ما قاله، و خرجنا إلى قمة السفينة لنرى اليابسة بسماء زهرية، إنها ساموس، جزيرة البلم...
يتبع...
