سمير الحجار
العودة إلى ساموس ٢/٣- الجزيرة

ربما أجمل ما قد تقدمه الحياة لنا هي الأشياء التي لا تتغير التي تخلق المفارقة الساخرة أحياناً أو شعور بالراحة للمألوف
و في العودة إلى ساموس حيث وصلنا في الصباح الباكر وجدنا الجزيرة على حالها؛ تفوح رائحة الأشجار و الورود و المياه الراكضة الساخنة في زوايا شوارع المدينة و صوت الموج يعلو مع قدوم عصافير الجبال، هذا المزيج من الطبيعة و تمدن الطبيعة لم يتغير منذ وصولنا الأول قبل سنوات.
إستقبلتنا عائلة كالاس-السيد و السيدة كالاس و أولادهم الثلاث-التي إستأجرنا منزلهم الصيفي، فقدموا لنا المياه الباردة و أخرجت السيدة كالاس خريطة الجزيرة "بدت و كأنها خريطة كنز" بينما يتعارك إثنان من الإخوة لفظياً، لتشير إلى أهم الشواطئ و المعالم السياحية، ثم صعدنا أنا و الشباب مع السيد كالاس في سيارته و دار حديث لطيف بيننا بينما نجول المدينة ، "إننا عائلة يونانية تقليدية كبيرة، و ساموس هو مسقط رأس زوجتي لكننا من سكان أثينا و نزور الجزيرة فقط في الصيف" قال كالاس الذي إعتقد أننا برلينيون الأصل، ثم ضاف عند مرورنا بأحد المرافئ:"تستقبل الجزيرة قوارب اللاجئين من هنا" فكتفينا بالصمت و التحديق في مِرآة السيارة الأمامية.

شاطئ و بوسيدون مزاجي:
مياه فيروزية، شواطئ حجرية و بقايا عواصف بوسيدون إله البحار التي خَلقها من نوبات ضجر مزاجية و التي وصلت إلي كريح رخاء لا تحرك شيء، فدخلت شعري و أصابعي ثم أنستني المدينة و القطارات المكتظة بالركاب العائدين من العمل و الجامعات، أنستني شباك الصباح الغائم جُزئياً، أنستني رقم المحامي و الفواتير و إعلانات عن مصبغة في الحارة و بعض المطاعم الآسيوية أجدها في صندوق البريد كل يوم، أنستني وهم الوقت أو خرونوس إله الزمن الذي حكم العالم و إبتلع أولاده و منهم بوسيدون ثم بزقه غصباً في البحار ليكون وحيداً، لذلك نقدر غضبه و مزاجيته..ضع نفسك في حذائه!

لم أصطحب معي إلى الشاطئ سوا كتاب لتولستوي بعنوان ما "هو الفن" حيث يستطرد في نظريات الفن و الجمال، فأقرأ ٢٠ صفحة ثم أغفو ثم أستيقظ لأسبح فأعود لأقرأ ٢٠ صفحة ثم أغفو ثم أسبح، و في كل مرة أبتعد عن الشاطئ أكثر لأصل إلى أقرب نقطة إلى دمشق مسموح الوصول لها، لأرى الجبال التركية تقف بيننا مُشوشة من المسافة، متمنياً أن تغسل المياه المالحة بقداستها أخطائي، قلقي و حيرتي.
ساموس القديمة-نظرية العود الأبدي:
إستطعنا أن نعيش روتين يومي أنا و الشباب ففي الصباح يستيقظ فراس، يصنع القهوة يقرأ الأخبار ثم أحمد الذي حصل على الغرفة التي تطل على البحر، ثم أنا و نافع بما أننا تشاركنا الغرفة المكيفة، نشرب القهوة على الصخور البحرية ثم نجول المدينة و كان هنالك بعض الخلافات البسيطة و بعض "الحرد" ولكنها تنتهي عندما نرمي الحِجارة على البحر أو نجتمع على طاولة من المأكولات البحرية، و في كل ليلة كنا نخرج و نتنزه حول البحر ، و مع مرور الليالي لاحظنا كيف كانت تتكرر الأحداث على متن هذه الجزيرة، فنرى الصياد نفسه في نفس النقطة كل يوم و تمر السيارة ذاتها كل ليلة في شارعنا و نرى العشاق ذاتهم كل يوم، و كأننا علقنا في الوقت، في يوم واحد يكرر نفسه على جزيرة فيثاغورس غريب الأطوار، إنها هذه الفكرة المبتذلة التي كررت في الأفلام أشهرها Groundhog Day، إلا أنها فكرة فلسفية عميقة جداً تناولها نيتشه في نظرية "العود الأبدي-Ewige Wiederkunft" التي ترى أن الحياة تدور حول عدد محدود من الأحداث التي تكرر نفسها في زمن لا نهاية، و عاد ألبير كامو ليسلط الضوء على النظرية في مقاله عن "أسطورة سيسيفوس-Le Mythe de Sisyphe" الذي عاقبه زيوس أب الآلهة و البشر بأن يقوم بحمل صخرة كل يوم إلى قمة جبل في العالم السفلي و عندما يصل تفلت الصرخة منه لتعود إلى نقطة البداية و مازال سيسيفوس إلى يومنا هذا يحاول الوصل إلى القمة في العالم السفلي و يعتقد كامو أن سيسيفوس يمثل عبثية و لا عقلانية الحياة الإنسانية و يختم المقال بمقولته الشهيرة «يجب أن يتخيل المرء سيسيفوس سعيداً».
بعد كأسين من عرق كالاس على المرفأ الذي رسا عليه قاربنا عند الوصول الأول، أصبحت هذه الفكرة محور حديث دام لساعات، فهل سنكون سعيدين بأن نُحبس مكانياً و زمنياً على متن هذه الجزيرة، أن نكرر اليوم نفسه في هذه اليابسة المنفصلة عن العالم، التي كانت محطة إنتظار غريبة قبل سنوات؟
بعد الكأس الثالث، أصبحنا في حالة من التأكد أننا علقنا في ساموس و أصبحنا مضطربين، فكل المعطيات تزيد من صحة نظريتنا، و لكن كيف إستطعنا مغادرة الجزيرة من قبل؟! و هل حقاً "أجمل ما قد تقدمه الحياة لنا هي الأشياء التي لا تتغير التي تخلق المفارقة الساخرة أحياناً أو شعور بالراحة للمألوف"؟!
بعد الكأس الرابع سهونا عن إضطرابنا و عام الصمت لنسمع صوت غسق البحر فنعست و تذكرت كيف نمت على المرفأ ذاته بعد أربع ساعات من رحلة البلم و تذكرت كيف أشار المهرب التركي عندما كنا على الشاطئ التركي المطل على اليونان، فسألته و الظلام قد سد الأفق، "أين هي هذه الجزيرة؟"
-فقال: أترى هذا الضوء المُتقد؟
-فقلت: نعم؟
-فقال: هذه هي ساموس
و في عرض البحر تأكدت بأن "هذا الضوء المُتقد" كان نجماً، يمكنك رأيته حتى في ضواحي برلين.
اليوم الأخير في ساموس-هوية:
في اليوم الأخير قبل قدوم السفينة بساعات التي ستبحر بنا إلى أثينا، أردت التنزه في المدينة القديمة للمرة الأخيرة، صعدت التلال و نزلتها، أبحث عن الظلال أين ما ذهبت متجنباً حدة الشمس الأمر الذي إعتدت عليه في دمشق و نسيته في برلين، ثم جلست في أحد مقاهي المدينة أشرب قهوة الفرابي الباردة، و جلست بين مجموعة من الأفراد، مثلي لا يريدون أن يغيروا العالم اليوم:
كان القصد من زيارة ساموس أن أتعرف على نفسي أكثر، أن أحدد هويتي التي ضاعات في الترحال و في إزدحام

المدن، أن أشعر بحراكي الإجتماعي الذي سهلته لي برلين لأعراف ما الذي أستطعت تحقيقه في ألمانيا بعدما وصلت إليها براً و بحراً.
"هذا أنا" قلت لنفسي بين مجموعة من السياح و المحليين و العاملين في القهوة ، هذا أنا الذي كنت أتوق لرؤيته في الماضي، و قد أشتاق إليه في المستقبل، في المستقبل عندما أدخل صراع الهوية و الإنتماء سأتذكر أنني "هذا أنا" في هذا الضوء المتقد.
بعد ساعات قليلة وجدنا أنفسنا أنا و شباب في السفينة مرة أخرى لنعود إلى أثينا مرة أخرى، صعدنا إلى قمة السفينة لنراها تبتعد عن اليابسة لنتأكد أننا لن نعلق على الجزيرة مكانياً و زمنياً، إنه يومنا الأخير في ساموس، ولن يتكرر.
يتبع..