سمير الحجار
حفل زياد الرحباني في برلين: 11 عاماً من الإنتظار

المصدر: نافع كردي ٢٠١٩
في عام ٢٠٠٨ في دمشق، كنت في المرحلة المتوسطة من دراستي و كنت أزور جدتي كل خميس و أقرا صحيفة بلدنا للتسلية و في أحد المرات قرأت عن فعاليات دمشق عاصمة الثقافة و عن حضور زياد الرحباني بحفلة ثورية مميزة في دمشق، و بعد أيام ملئت شوارع المدينة بإعلانات الحفل لشراء التذاكر.
تمنيت حقاً لو كان بإستطاعتي حضور الحفل بما أن ابن فيروز هذا كان الأيقونة الثقافية الفنية الأبرز في سوريا و اللبنان، لكن عمري لم يسمح لي فكتفيت بإنتظار العدد الجديد من صحيفة بلدنا للقراءة عن الحفل، و قد أدركت أنني خسرت الفرصة الوحيدة لحضور حفل زياد الأول و الأخير غالباً في دمشق.
في الثانوية و بعد دخول الأحداث السورية عامها الثالث و مع تدهور الوضع المادي، السياسي و العاطفي، أصبح مسرح و موسيقى زياد أكثر أهمية لي، و في الشتاء أذكر تماماً كيف كان بعض الزملاء يحرقون الكتب و الدفاتر في حمام المدرسة لندفى و ندخن و نحن ننتظر بعض الزملاء الذين هربوا لإحضار الفلافل الطازجة بينما يشغل بعض الزملاء موسيقى زياد على عدد من الهواتف الذكية في الوقت ذاته، و في المساء يجتمع نفس الزملاء في قبو منزلي لنتحدث في السياسة و الفن و صبايا الثانوية على أنغام بالنسبة لبكرا شو؟
في خريف ٢٠١٥ وصلت إلى برلين بسلامة و تحسنت الأمور المعيشية شيئاً فشيئاً و لم تعد أعمال زياد التي أعرفها تشبهني و لا تشبه محيطي و أصبح الإنتماء لها صعباً، فبحثت عن أعماله في الجاز التي لا تغنى بشكل جماعي و لا تتمحور حول سوء الأحوال بل حول الموسيقى و فحوتها و لا شيء غير ذلك، و هنا تعرفت على زيادأكثر فإن عبقريته كموسيقي تصبح أكثر وضوحاً في هذه الأعمال و قد تتنافس مع كبار مؤلفي الجاز الحديث، الأمر الذي أحزنني حقاً لأننا حصرنا و حاصرنا أعماله.
في ربيع ٢٠١٩ أعلن زياد الرحباني (و أصدقاء) عن جولة أوروبية تحت عنوان «تحية إلى جو سامبل» و المحطة الأولى كانت برلين فهرعت إلى الإنترنت لأشتري التذاكر ولكن للأسف تم بيع جميها و في مساء اليوم نفسه إجتمعت بصديقي نافع الذي يعمل كمصور بين الحين و الأخرى لصحيفة عربية محلية و إستطاع أن يحصل على تذكرتين لنا لنغطي الحفل صحفياً. و مع إقتراب الحفل شعرت و كأن ٢٠٠٨ تكرر نفسها، فحاولت البحث عن صحيفة بلدنا لأجدها توقفت عن إصدار نسختها الورقية والإكتفاء بتحديث موقعها الإلكتروني وأصبحت بعنوان (بلدنا-نيوز) بتحرير سيء و أخبار غير حيادية.
٢٠١٩/٠٣/٠١ مساء يوم الجمعة أصبح ضجيجنا عالي و نحن ننتظر زياد و الأصدقاء في قاعة كيسيلهاوز التي كانت معملاً لصناعة البيرة سابقاً، ثم يخرج زياد و الفرقة ليتصاعد الضجيج ليصبح هتافاً جنونياً ليدرك الجميع مدى أهمية هذه اللحظة التي ألهمتنا و أعادت روح حفل دمشق ٢٠٠٨.
تبدأ الفرقة بالعزف و زياد على يسار المسرح، فشعرت أننا-أنا و زياد-وحيدان في هذه الصالة و تلاشت المساحات و المسافات البشرية بيننا لأتذكر بعض الزملاء و قبو منزلي و حياتي التي دارت حوله و كم تغيرت معطيات هذه الحياة في المدة الزمنية الممتدة بين الحفلتين
.
قدمت الفرقة بعض الأعمال من ألبوم (هدوء نسبي)، (مونودوز) بالإضافة لأعمال جو سامبل، و طغى على الموسيقى اللون الغربي مما قسم الجمهور إلى قسمين، قسم أراد زياد الذي يعرفونه بكلاسيكياته الشرقية مثل عايشة وحدها بلاك أو مربى الدلال و أبدوا إستياء و خيبة ظن واضحة لعدم مشاركة زياد في الغناء فقال أحدهم "أنا دفعتلإسمع صوت زياد" ربما لم يمز بين جوزيف صقر و زياد؟!
أما عن القسم الثاني فحاولوا تجاهل القسم الأول و ضوضاء تذمرهم، لأنهم أتوا للإستماع لزياد و الفرقة مظهرين إحتراماً للموسيقى من دون أي مطالب، و يصفقون بشكل عفوي بعد العزف المنفرد لأعضاء الفرقة و هي أحد تقاليد حفلات الجاز، و في نهاية الحفل كان الجميع قد إنتشى فقط لرؤية زياد شخصياً الذي ترك لنا مساحة من المتعة و الفرح في ذاكرتنا كما إعتدنا دائماً.
لقد جعلنا زياد نشعر بجمال مأساتنا و بقداسة فقرنا و كنا نشعر بزياد أكثر كلما زاد الحال سوءًا ليصبح إدماناً ليكون الإيجابي السلبي في حياتنا في دمشق التي تتكرر فيها المصائب و تتدهور مع مرور الوقت في إطار الوضع السوري الممتد بين ٢٠١١ و ٢٠١٥، كما علمنا كيف يصنع الجاز في المنطقة العربية و أبرز لنا أهمية الجهد الفني و النقد الفني و صف الكلام لنسمي الأشياء بأسمائها.