سمير الحجار
سايكدلية في دمشق—هلوسات العودة إلى المنزل:

الصيف في دمشق كان دائماً مميز و طويل مليء بالمغامرات و التسكع مع الأصدقاء في المقاهي و الأحياء القديمة أو مراقبة الطيور المهاجرة من تراس جدتي المطل على قاسيون، في محاولات تارةً فاشلة، و تارةً ناجحة لدرء الملل الذي كان يغيم على سماء المدينة، المدينة التي تظهر أخبارها كل يوم على شاشات قطارات العواصم الغربية، وجرائدها المحلية...فما الذي يحدث في دمشق؟
لا أعلم كيف إنتهى بنا الأمر أنا و جاري سامر أن نلتقي في ساروجة فنحن لا نرتادُها كثيراً، و لكننا تمشينا فيها و تحدثنا عن كُل شيء و أي شيء، و ما هي إلا بضعة حارات حتى لمحنا نادر، و بِئس المصير.. فنادر هذا كان المتنمر رقم واحد في حياتنا على إمتداد ٥ أعوام من المراهقة، و هو حقاً "نادر" فكان شاب في العشرين من العمر يعمل في تمديد الكهرباء، أقرب الهوايات إلى قلبه هي شرب العرق و تسلق عواميد الكهرباء، ففي كل ليلة يقوم بدمج الهوايتين معاً، يشرب ثم يتسلق فيصل إلى القمة ويبدأ بشتم الجميع، و التوعُد لِأولاد المنطقة بالتنمر و ذلك بذكر اسمائهم فرداً فرداً، و عندما لمحناه حاولنا العودة من حيث أتينا و لكنه كان قد فات الأوان و رآنا و بكل كلاسيكية نادانا:"شِفتكم حبيباتي، تعالوا" فأتينا و كانت برفقته فتاة تمضغ العلكة و على ذراعها وشم فرعوني فطلبا منا الجلوس.
جلسنا، و لاحظنا تصرفات غريبة من نادر الذي كان لطيفاً نوعاً ما و كان قد أخبر صديقته عنا ثم سألنا إن لو أردنا أن نطلب شيئاً و بالطبع قلنا لا ثم قدم لنا العلكة فرفضنا ثم وضع عيناه في أعيننا و أصر بكل شيطانية أن نأخذ العلكة و الآن، فأخذناها و طلب منا الإنصراف، و أنصرافنا قريب الساعة العاشرة ليلاً و تساءلنا، متى سنتخلص من هذا الكحولي الذي يعتقد نفسه النسخة البروليتارية من قصي خولي في غزلان في غابة الذئاب و نحن نمضغ العلكة الغريبة تلك و ظللنا ندور في حارات ساروجة القديمة دون معرفة المخرج، سألني سامر إن كنت أشعر بشيء غريب و حقاً كنت أشعر بخفة جسدي و قوة نظري أما سامر فقال أنه يستطيع أن يرى يده بثلاثة أبعاد فقلت له إنه أمر طبيعي و لم يوافقني، ثم تبادلنا النظرات الإستنتاجية و أدركنا أن عِلكة نادر هذه ستقدم لنا أهم مغامرة في دمشق.
ها نحن ذا في دمشق القديمة تحت تأثير السايكدليات التي لم نعرف عنها شيء، و بدأ مفهوم الوقت يتغير و بدأنا نمشي بين الناس و نحن بمزيج من المشاعر المبالغ فيها حتى ظهر ضوء بعيد يختفي ثم يعود مع مرور السيارات إنه شارع الثورة الذي بدت فيه البنايات كناطحات سحاب، توقفنا و حاولنا عد المُكيفات المعلقة على الأبنية و فجأة وجدت سامر يضع يده في جيبي لندفع لعصير رمان طازج و كانت المرة الأولى التي اذوق فيها عصير هذه الفاكهة الغريبة ثم أكملنا مشينا دون وجهة، أصغر التفاصيل تشدُ إنتباهنا و إلى الآن كان بوسعي أن أقول بأنها تجربة لطيفة إلو أن دخلنا أحد الأسواق الشعبية حيث الملاحم كانت على وشك الإغلاق و بدأت عملية تنظيف جماعي من اللحامين حيث إنتشرت دماء الخواريف و البقر وامتزجت جميها على إمتداد الشارع و لم نعد نفرق بين الدم و عصير الرمان و أصبح اللون الأحمر هو المسيطر على المرئيات و هنا توسعت حدقة عيني و رمينا العصير، هربنا و وجدنا أنفسنا مقابل وزارة العدل و بدأت أستقل تكسي بينما يتحدث سامر مع صورة لمرشح مجلس شعب فئة ألف.
توقف التكسي المنقظ، و سألنا عن وجهتنا دون الإنتباه إلى حالتنا و صعدنا، السيارة كانت قد زينت لسوء الحظ بالإضاءة الحمراء مع بعض خصل العنب البلاستيكية، وأخرج السائق الشاب ألبوم لأجمل أعمال راغب علامة من ثمانينات القرن الماضي من كيس أسود ثم قال أنه إشتراه من حلاقه الكائن في شيخ محيي الدين و هو تقليد قديم له و كان سعيداً و له الشرف بأن "ندشنه" سوية فقلنا له "نعيماً" و بدأ راغب علامة بالغناء بجميع اللهجات و على الطريق كنا—سامر، السائق، و أنا—نغوص في عوالمنا و كان من سهل ملاحظة شدة إكتئاب السائق الذي لم يدخل إلى قلبه نشوة الحياة سوا راغب، فأحياناً ليس هنالك شيء أشد كآبة من الموسيقة السعيدة، أما عن سامر الذي جلس في المقعد الأمامي فكان قد استمتع حقاً بغناء "ضوا الليل...و صار نهار" ثم يطلب منا الغناء معه "و العتمة شعلت أنوار" وهنا أنتبهت للمرة الأولى كم هي تصويرية موسيقة راغب "منك صار الورد يغار" أو مثلاً في أغنية أخرى له في نفس الألبوم بعنوان "الهدية"حيث يذهب علامة في مغامرة مميزة بحثاً عن هدية لحبيبته فيذهب إلى "الجوهرجية" ثم إلى تاجر حرير ثم إلى "مدينة العطورة" و لا يجد شيء يليق بها و إن وجد فستكون رخيصة الهدية لمدى غلاوة المتلقي، ينهي الإغنية بتقديم"قلبه" لها و يؤكد رخص الهدية مرةً أخرى...يا إلهي هل كان راغب يستهلك علكة نادر؟!
وصلنا إلى منطقتنا الجبلية و غادرنا التكسي لنجد الكهرباء مقطوعة و كان علينا أن نمشي لمدة ١٠ دقائق تقريباً للوصول و أردنا أن نروي ظمأنا فتوجهنا نحو كشك نرتاده بإستمرار لشرب القازوز و نحن نغني "ودانا…ودانا" و نحول العثور على معنى "ودانا" في الظلام الداكن لا ضوء سوا ضوء الكشك وبدأت اسمع صدى صراخ رجال كنت أعتقد أنني أهلوس إلى أن نظر لي سامر بحيرة و ذهول و كلما أقتربنا أشتد الصياح مترافق مع تكسير زجاج، لحظات و يخرج شابان يجران بوحشية شاب و رجل كبير السن من ثيابهم ثم يتم زجهم في سيارة بيجو ٥٠٤ بيضاء تحمل نسر العدالة على شباكها الخلفي التي إستطعنا أن نميزها قبل إنطلاقها السريع مع تغير موجات صريخ الرجلان المتناسب مع السرعة في غسق الليل المفروض علينا، و بصمت دخلنا الكشك لنجد سيجارة وحيدة مشتعلة في صحن سجائر نظيف، دُخانها يتراقص ببطئ متناغم مع ضوء الLED البسيط الأبيض الصناعي، نعم الرجل كبير السن كان صاحب الكشك الحلبي الذي كان يفتح لنا القازوز كل يوم في الصيف.
عدنا للمنزل و لم نتحدث على طريق العودة، و بعد عدة أيام تعرفنا على هوية الشب الثاني، إنه نادر الذي تم إعتقاله في تلك الليلة و إلحاقه بالجيش في شمال البلاد ليستشهد في الصيف التالي و إلى اليوم أتساءل عما إذا كانت روح نادر مازالت تتسلق عواميد كهرباء لتشتم الجميع في كل ليلة إلى أن تنتهي المدينة و تنتهي المنطقة...أم هل ستبقى العواميد وحيدة كما بقيت سيجارة صاحب الكشك الذي لم نراه مرة ثانية، تحترق بصمت و بوحدة؟