top of page
Search
  • Writer's pictureسمير الحجار

تسجيلات مفقودة من الثمانينات: عن النوستالجيا و أنواعها


غلاف ألبوم The Outfield Play Deep 1985

مع نهاية الصيف و بداية الخريف بدأت عطلتي و التي هي أشبه باستراحة ما بين الشوطين أو الفصلين الجامعيين إستراحة من موادي الهندسية المنطقية، و إعادة شحنبالطاقة المطلوبة، و عادةً ما أزيد من ساعات عملي للإستفادة بقدر الإمكان من وقتي المفتوح، و لكن بسبب الوضع الاستثنائي هذه السنة و مع تفشي الوباء في أوروبا تم تسريحي من وظيفتي في تنظيم مؤتمرات برلين حتى نهاية العام، و هذا يعني أن جدولي فارغ تماماً هذه العطلة مما سبب لي بعض القلق بما أنني منذ قدومي الأول إلى ألمانيا ما أعتدت أن أجلس بلا مهام أو أنشطة لأشغل عقلي و هكذا عدت لممارسة الرياضة و صريخ في النادي و تنظيف الأجهزة بعد الاستخدام وضعت برنامج غذائي وعددت السعيرات كما تعلمت بعض الوصفات الهندية و هو مطبخي المفضل و اشتريت الكثير من التوابل، وضعتها في قناني زجاجية صغيرة و كتبت عليها اسم البهار وبدأت أمشي في أحياء المدينة و استمتع بواجهات المحلات المختلفة و الأقرب إلى قلبي محل ناسخ المفاتيح "صانع الأسرار و الأمان"، مصلح الأحذية في أنٍ معاً و هو ليس الوحيد في برلين، و لكن يا ترى ما هو وجه الشبه بين الحرفتين؟!

في المساء أخرج مع الأصدقاء باحثاً عن قصص مسلية أو مملة في الحانات و المقاهي و بت أستيقظ في كل صباح، أحضر قهوتي و أقراء الصحف المحلية، سياسة، ثقافة، إقتصاد، و فن و في أحد المرات كنت قد قرأت عن المنيمالزم-minimalism أو تقليدية-التبسيطية و هي فلسفة جمالية إن صح القول في الفنون البصرية، الموسيقا، و العمارة الداخلية تتميز بتقديم الأعمال الفنية بأقل عدد من العناصر و اقتنعت بفحوة هذه الحركة الفنية و هي حذف الكثير من التفاصيل، التفاصيل المملة غيرالضرورية و نظرت حولي في غرفتي و بدأت بالتخلص من الأشياء التي لا أستعملها و تزيد فقط من صخب المكان.

بعد مرور أيام على بداية عطلتي أصبح الملل في أوقات الظهيرة هو صديقي الوحيد لانشغال معظم أصدقائي في هذا الوقت من اليوم في العمل و الدراسة، فوجدت نفسي في يوم غائم جزئياً أخرج للتنزه في حي برليني على الطرف الغربي من الجدار، و ارتدت أحد المقاهي، طلبت قهوتي شربتها و تقاسمنا الصحف و المجلات أنا و رجل في خريف العمر و بدأ الباريستا بتشغيل أغنية كنت قد عرفتها من الثواني الأولى، لقد سمعتها ألف مرة و لكن ما اسمها.. ما اسمها؟! بالطبع "شزمتها"، إنها Just what I needed للفرقة The Cars أهم رموز موسيقى "الموجة الجديدة-New Wave" الممتدة بين نهاية السبعينات و منتصف الثمانينات، آه و كيف لي أن أنسى ذلك اليوم الذيحملت فيه ميكس كامل من أغاني الثمانينات و الموجة الجديدة قبل ١٠ سنوات لأستمع له لخريف كامل، كانت هذه الأغنية الأولى على الميكس، كافية أن تذكرني برائحة المطر في جبال دمشق و أنصاف قوس قزح تنتهي في جبال الديماس، فاتصلت بأخي في دمشق و سألته عن ملف الأغاني الذي احتفظت به على القرص الصلب أو الهاردديسك، فقال:"و الله أحترق من زمان يا برو" و هي أكثر جمل أخي زيد تكراراً فمن الطبيعي أن تدخل عليه يوماً جالساً في مكتبه يضرب الحاسوب فتسأله "ما بك؟!" ليقول"والله أحترق كرت الشاشة" أو "احترق المنظم" او "احترقت الفلاشة"، فلم أتفاجئ من احتراق كل ملفاتي الشخصية و لكنني أدركت ضرورة البحث عن كل أغنية كانت على هذا الشريط و العودة إلى هذه التفاصيل، ما هي القصص و المشاهد المختبئة في بقية الأغاني سأرسم و أتتبع مسار للعودة، سأجمع كل العناصر من هذه المشاهد و أحتفظ بها إلى الأبد ربما.

قدمت الصحيفة الى شريكي الرجل، خرجت و ضعت سماعاتي مشيت على إمتداد الجدار و بدأ بحثي، الأغنية الثانية إنها بالتأكيد I Ran so far away، تذكرت كيف كنانرمي الحجارة على شرفة أحد أصدقائي ثم نركض نهرب بعيداً و نختفي في ضباب الشتاء كثير الرطوبة على النوافذ و الأسطح الملسة ، ليغضب آباه الذي كان يكرهناكثيراً و كان يلقبنا بالمنبوذين لسذاجة مراهقتنا ، و كنا نلقب ابنه ب"المنبوذ" للتأكيد على أنه واحد مننا، أما عن الأغنية الثالثة فهي ل The Outfield تلك الفرقة البريطانية التي حصلت على بعض النجاح التجاري في الولايات ثم أختفت، Talk to me كان عنوانها و صداها أذكرني بفتاة لطيفة تعرفت عليها في الثانوية و قضينا الكثير من الوقت "نتهاتف" على سطح منزلي في بداية الشتاء و برفقتي جاري سامر الذي كان "يهاتف" صديقته أيضاً، وعندما تبرد يدي من حمل الجوال أبدلها بتلك الدافئة في جيبي الرابعة و هي تشبه أكثر الواقع السوري Cult of Personality لفرقة living colors يأتي العنوان من تقرير الزعيم السوفيتي نيكيتا خروتشوف عام 1956 ضد ستالين ، "حول عبادة الشخصية و نتائجها" إنها تشبه كثيراً ذلك الاضطراب الذي كان ينتابني قبل الحواجز العسكرية المنتشرة في المدينة و المحاولات الدائمة لإثبات أنني لست إرهابي ،مجرم، أو أشكل أي خطر على سيادة الدولة و البحث عن السلوك الصحيح، إنها تشبه تلك الأسئلة الروتينية قبل الوصول إلى المجند مثل: "هل أمشي بسرعة، أم ببطئ، ربما من الأفضل أن أمشي بسرعة ببطئ"و أنا مجرد مراهق يدخن و "يهاتف" فتاة لطيفة تعرفت عليها في الثانوية، و تنتهي الأغنية بمقولة مقتطفة من الخطاب الأول للرئيس الأمريكي السابق روزفلت: " الشيء الوحيد الذي يجب أن نخافه هو الخوف نفسه“.

بعد ساعات من بحثي أستطعت أن أتذكر معظم أغاني الشريط، و عدت إلى كل تلك السيناريوهات المشوشة و القصص الناقصة و الأصوات المنسية المختبئة أين هم هؤلاء أبطال قصصي القصيرة،

ها أنا أمشي مع جدار برلين حيث أخذتني الرياح، أستخدم موسيقى الثمانينات للعودة إلى مراهقتي و إلى ذكرياتي في الشام التي حاولت أن أنساها منذ بداية حياتي الجديدة هنا التي عودت نفسي فيها أن أنظر دائماً إلى الأمام أن أتعلم شيء جديد كل يوم، أن أحسن الأداء في مقابلات العمل، أن أتابع أسواق البورصة في قطار مقتظ بالقوى العاملة لندور مع عجلة الإقتصاد، لنرسم المستقبل و نتوقع ضجيج عشوائية أحداثه، أما عن الماضي فسيجعلني أدور في مكاني، إنها النوستالجيا و لا أدري إن كانت للمكان أم للزمان، للمشاعر أم للناس و لكنها أستغلت وقتي اليوم و جعلتني كطفل الذي يبحث بسر عن سكاكر جدته في خزانتها، إنها نوستالجيا و لكنها ليست حزينة كتلك التي تجعلك تريد "العودة إلى المنزل" و أنت تدخن تبغك في سيارتك و المطر لم تتوقف منذ أيام، أو تلك التي تجعلك تريد "العودة إلى المنزل" و أنت في"المنزل" تجعلك تشتاق أشخاص و هم أمامك، إنها ليست تلك الأوهام التي حولت أوجاع الماضي مع الوقت إلى ذكريات مريحة، بل تلك النوستالجيا التي دفعتني لتحويل هذه المشاهد إلى لوحة لأضعها في بيتي الخالي من العناصر المليء بالفراغ التبسيطي، أتذوقها لدقائق، تماماً...هذه هي وظيفة التسجيلات المفقودة من الثمانينات، التي جذبتني كثيراً كمراهق؛ الموسيقى و الأزياء، نشرات الأخبار الرؤساء الأمريكيون في تلك الحقبة، السينما ، التكنولوجيا بل و بالذات التكنولوجيا التي أستطعت أن تترك لنا هذه العوالم و هذا النوع من النوستالجيا، الذي يسمى بالأنمويا: و هو الحنين إلى زمانٍ لم نعيشه، لنكون سياح في بلاد الماضي.

 

144 views0 comments
bottom of page