top of page
Search
  • Writer's pictureسمير الحجار

محاولات فاشلة في البحث عن الهوية و الحقيقة المطلقة

Updated: Jun 19, 2020



,,إنه كذلك. عندما تعتقد ذلك'' Luigi Pirandello

لنتخيل مشهد تفاعل إجتماعي كلاسيكي لك، أنت و صديقان، تجلسون في أحد المقاهي فيمكننا أن نقول أن الصديق الأول يملك فكرة عنك و عن هويتك، و الصديق الثاني يملك فكرة مختلفة عنك أيضاً إذاً الحقيقة التي يملكها أصدقائك بالنسبة إليك تتمثل في الشكل الذي تمنحه أنت لهم، و لكنها حقيقة بالنسبة لهم و ليس بالنسبة إليك، و الحقيقة التي تملكها أنت بالنسبة لأصدقائك تتمثل في الشكل الذي يمنحه أصدقائك لك، و لكنها حقيقة بالنسبة لك، حتى عندما تمنح حقيقةً ما لنفسك عن نفسك، فإن هذه الحقيقة لن تكون أكثر صدقاً، من تلك الحقيقة التي منحها لك أصدقائك، لأنهم يرون مزيج من جسدك و إنفعالاتك يصعب عليك رؤيته، فكثيراً ما نتعرض لملاحظات من معارفنا عن الشعر الشائب في رؤوسنا، طريقة مشينا، أو كثافة شعر حواجبنا و هي أمور يصعب تميزها عندما تكون داخل الجسد، و قد تتعدى هذه الملاحظات الجانب البدني لتصل إلى سلوكنا و تفكيرنا، تفاصيل لا ننتبه لها، بل إننا —"هويتنا و ماهيتنا"—إلى حدٍ ما من صنع غيرنا، من الصفات التي صنعها و أعطاها لنا الآخرون و التي لم نفكر فيها أبداً، و قد تتهجم علينا أحياناً فنضيع في ضجة الصفات المعطاة منا—من نفسك لنفسك— و من الآخرين، و هكذا تخلق الأقنعة المختلفة لكل فرد التي تلتفت جميعها إذا ناديتم اسم الفرد هذا.

إذا سئلت يوماً "من أنت" فسيكون الجواب مرتبطاً بالمهنة الممارسة، الأنشطة أو الهوايات، الوضع العائلي، الفئة العمرية ..إلخ، نعم و لكن ما الذي يجعل "أنت"، "أنت"؟

هنا يصعب الجواب، لذلك يمكننا أن نقول أننا مجموعة من الأفكار المنسوبة لنا منا و من غيرنا، جميعها أفكار مختلفة متناقضة، و لكنها غير حقيقة، إذاً أين هي الحقيقة المطلقة؟

حول هذا السؤال الوجودي تمحورت أعمال الكاتب الإيطالي لويجي بيراندلو الحائز على جائزة نوبل للآداب عام ١٩٣٤، في الربع الأول من القرن الماضي أشهرها مسرحية "ست شخصيات تبحث عن مؤلف" التي تسببت نهاية عرضها الأول في روما عام ١٩٢٣ بهستيريا جماعية أدت إلى مضاربات بين النقاد، الجمهور، و الممثلون، إضافةً إلى رواية "واحدٌ، لا أحد، و مائة ألف" التي تعمق فيها بالحديث عن فلسفة الهوية و بنائها، فتبدأ بإكتشاف موسكارد إنحرافاً في أنفه بعدما أخبرته زوجته بينما كان يحدق في المرآة و يبدأ موسكارد رحلته الدرامية لإكتشاف نفسه و التساؤل عن صورته العامة.

يعتقد لويجي أن لدينا في داخلنا، دون أن نكون قادرين على معرفة لماذا أو من أين، الحاجة إلى خداع أنفسنا بإستمرار من خلال خلق حقيقة (واحدة لكل واحد ولا تتشابه أبداً للجميع)، و التي يتم إكتشافها من وقت لآخر لتكون عبثية و وهمية، لنخلق حقيقة جديدة مرة أخرى، و قد يكون هذا النظام الفطري هو الحقيقة إلا أنها حقيقة مروعة فيتحول الوعي إلى مفهوم يخفيها لذلك يرى النوبلي أننا لا نستطيع تجنب خيبة الظن الموسمية لأنها ضرورية لبناء الواقع، و القواعد الإجتماعية تجعل الموضوع أكثر صعوبة، فإننا نقوم بإرتداء عشرات الأقنعة يومياً لنتفاعل مع محيط إجتماعي مختلف، ففي العمل أنت موظف و في الدوائر الحكومية مواطن، و في المقاهي صديق و في البيت زوج/شريك و على وسائل التواصل الإجتماعي أنت الشخص الذي تتمنى الوصول له، إضافةً إلى أن السلوك الإجتماعي الجيد هو بحد ذاته مخيب للظن فعندما نغوص في ماهيته سنجد أنه إما تطور لتغطية شيء "مَعِيب" أو فارغ، كما هي الحياة في رأي لويجي و هي ليست فارغة أي نستطيع ملأها بشيء، إنما هي فارغة بلا أمل و ليس بإستطاعة الإنسان جعلها أفضل، إذاً هنالك ضياع و ضجة تحدث بشكل يومي على مستوى الوعي العام و التي لا نستطيع أن نفسرها، بل إننا نخافها حيث حتى إن سقط القناع يوماً و قمنا بتحليل هوياتنا المتعددة و المتناقضة فسنعود لإرتدائه بسرعة و ننسى أنه سقط أصلاً خوفاً من الجنون أو استغراب المقربين لنا من سلوكياتنا.


يرى الألماني إريك إريكسون عالم النفس أن الشخصية تتطور في ترتيب محدد مسبقاً من خلال ثماني مراحل من التطور النفسي والاجتماعي، من الطفولة إلى مرحلة البلوغ، خلال كل مرحلة يعاني الشخص من أزمة نفسية اجتماعية يمكن أن يكون لها نتائج إيجابية أو سلبية لتنمية الشخصية، و في المرحلة الخامسة ضمن فترة المراهقة يبدأ الفرد للمرة الأولى بالتعرف على نفسه، يبحث عن الأشياء و القيم التي تقدم له هويته كما يلعب الأهل دور جزئي أو في أسوء الأحوال كلي فإن أجبر المراهق على اتباع آرائهم فسيربك و يشوش هويته، و في العالم الغربي تحاول المنظمات التعليمية و التربية أن تقدم سيناريوهات عديدة للمراهقين لمساعدتهم في البحث عن هويتهم، "قد تكون أنت كذا"، "لعلك تحب كذا لأنك كذا" فمن المهم جداً أن يجد الفرد "مكاناً" في المجتمع، و إن تخطى الفرد هذه المرحلة فسيعود مرة أخرى في فترات لاحقة ليسأل "من أنا؟"، و هنا يقدم لنا لويجي نصيحة بألا نحاول لأننا ليس لدينا هوية واضحة و لن نحصل عليها، فعليك بالهدوء لأنها غير موجودة.

إننا مجموعة من التناقضات، و ليس نحن فحسب بل الحياة و الحقيقة نفسها متناقضة و علينا أن نأخذ هذه الفكرة على محمل الجد، إننا نتخيل أن العالم بصورة معينة عندما يكون خلاف ذلك، فهو أكثر تعقيداً من أن يسع في إطار إنساني، فهو سلسلة من الأحداث الفوضوية غير المنمطة التي لا نستطيع أن ننظر لها بعقلانية، ربما أول من طرح هذه الفكرة كان الفيلسوف الألماني هانس فاينجر، الذي نشر كتاباً أثار ضجة في المشهد الفلسفي الغربي عام ١٩١١ بعنوان "Die Philosophie des Als Ob-فلسفة كأن"حيث قال أن الواقع لا يحقق طموح الإنسان, لذا هنالك حاجة دائمة و ماسة لإختلاق عالم يستكمل به هذا الواقع, إنه يعلم أن اختلاقاته لا تمد بصلة لهذا الواقع, ولكنه يتمسك بها لأنها مفيدة عملياً.

بعد قبول رأي إيمانويل كانط بأن المعرفة تقتصر على "الظواهر" و لا يمكنها الوصول إلى الأشياء في حد ذاتها يرى فاينجر أنه من أجل البقاء، يجب على الإنسان استخدام إرادته لبناء تفسيرات خيالية للظواهر "و كأن" هناك أسباب عقلانية للاعتقاد بأن مثل هذه الطريقة تعكس الواقع، و في الفيزياء يجب على الإنسان أن يسير "و كأن" عالم مادي موجود بشكل مستقل عن إدراك الموضوعات و في السلوك ، يجب أن يتصرف "و كأن" اليقين الأخلاقي ممكن ؛ في الدين ، يجب أن يؤمن "و كأن" هناك إله.

 آلبر كامو
آلبر كامو

من هانس و نظريته أستمد لويجي فكره ثم جمهرها في أعماله لتكون أبرز العناوين الفكرية في القرن العشرين ليزرع البذور الأساسية للتيار الوجودي و الوجوديين الذين تصارعوا مع إدراك مفزع أنه في الواقع لا يوجد معنى محدد مسبقاً للحياة نحن مجرد مادة بيولوجية تدور بلا معنى على صخرة صغيرة في زاوية من عالم غير مبالٍ و كان الكاتب الجزائري الفرنسي آلبر كامو رمزاً أساسياً فيه، و هنا يجب علينا أن نذكر تجربته في العبثية و البحث عن معنى للحياة، فلسفة الوجودية ضخمة و لا نستطيع تلخيصها إلا أن تجربة ألبر كامو جديرة بالذكر في سياق المقال هذا، الذي يقبل أن حياتنا "سخيفة" و قد تكون جهودنا إلى حد كبير عقيمة إلا أن هنالك أشياء تجعل الحياة تستحق العناء، كالصيف، الطبيعة، العلاقات العاطفية، الطعام اللذيذ، و الصداقة و هي مواضيع أستطرد في الكتابة عنها ليعارض فلسفة العدمية و لكنه يقترح أنه يجب علينا التأقلم بقدر ما نستطيع في أي وقت يتعين علينا القيام به الإعتراف بالخلفية السخيفة للوجود ثم الإنتصار على اليأس الناتج من الإعتراف، فربما فقط عندما ندرك فراغ الحياة بإمكاننا أن نعيشها بكثافة، بلا حدود لنكتب قصصنا بنهاية سعيدة على الأقل و إن كانت بلا أي معنى.

بناءً على ذلك عاش البر كامو حياة مليئة بالمغامرات و النجاحات على الكثير من الأصعدة، فكان وسيماً محبوباً من النساء، أنيقاً في لبسه كما كان شاب رياضي و حارس مرمى لأحد النوادي الجزائرية المحلية الذي حاز على كأس بطولة أفريقيا الشمالية مرتين، إضافة إلى فوزه بجائزة نوبل للأدب عام ١٩٤٦.


نعم، هنالك إحتمال كبير أن تكون الحياة فارغة، و قد نكون مجموعة من الأقنعة و قد لا نعرف من نحن أبداً، و لكن أليس هنالك شيء من الجمالية العبثية، بأنها فارغة أو بأننا مجموعة من الأقنعة، أليس هنالك حس من اللامبالاة الذي سيجعل قراراتنا أكثر تهوراً و مخاطرةً، أليس من الجميل أنه بإمكاننا أن نرتدي بعد قراءة هذا المقال قناعاً جديداً كلياً و نغير إطار حياتنا و أن نكتب قصص جديدة مغايرة لكل ما كتبناه ثم ننهيها بإرتداء قناع جديد لنكتب عن مغامرة أجدد حول محاولات جميلة، و لكن فاشلة في البحث عن معنى لحياة فارغة و لكننا نحبها و نتمنى أن نكون كل يومٍ فيها أفضل من أمس الذي نحبه بكل غرابة و فيه ذكرياتنا التي نعود إليها لنتذكر "من نحن" أو "من كنا".

127 views1 comment
bottom of page